كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فإن كان الأول، فمن المعلوم- باتفاق من يعلم هذا- أن الأفلاك مستديرة كرية، وأن الجهة العليا هي جهة المحيط، وهو المحدود، وأن الجهة السفلى هي المركز، وليس للأفلاك إلا جهتان: العلو والسفل فقط، وأما الجهات الست فهي للحيوان، فإن له ست جوانب: يؤم جهة فتكون أمامه، ويخلف أخرى فتكون خلفه، وجهة تحاذي شماله، وجهة تحاذي يمينه، وجهة تحاذي رأسه، وجهة تحاذي رجليه. وليس لهذه الجهات في نفسها صفة لازمة، بل هي بحسب النسبة والإضافة، فيكون يمين هذا ما يكون يسار هذا، ويكون فوق هذا ما يكون تحت هذا، لكن جهة العلو والسفل للأفلاك لا تتغير، فالمحيط هو للعلو، والمركز هو السفل، مع أن وجه الأرض التي وضعها الله تعالى للأنام، وأرساها بالجبال، هو الذي عليه الناس والبهائم وغيرهما.
فأما الناحية الأخرى منها فالبحر محيط بها، وليس هناك شيء من الآدميين وما يتبعهم، ولو قدر أن هناك أحدًا، لكان على ظهر الأرض، ولم يكن مَن في هذه الجهة تحت مَن في هذه الجهة، ولا مَن في هذه تحت مَن في هذه. كما أن الأفلاك محيطة بالمركز، وليس أحد جانبي الفلك تحت الآخر، ولا القطب الشمالي تحت الجنوبي، ولا بالعكس، وإن كان الشمالي هو الظاهر لنا بحسب بعد الناس عن خط الإستواء، فما كان بعده عن خط الاستواء ثلاثين درجة مثلًا، كان ارتفاع القطب عنده ثلاثين درجة، وهوالذي يسمى عرض البلد، فكما أن جوانب الأرض المحيطة بها، وجوانب الفلك المستدير ليس بعضها فوق بعض ولا تحته، فكذلك من يكون على الأرض لا يقال إنه تحت أولئك، وإنما هذا جبال يتخيله الْإِنْسَاْن، وهو تحت إضافي.
كما لو كانت نملة تمشي تحت سقف، فالسقف فوقها، وإن كانت رجلاه تلي السماء، وكذلك قد يتوهم الْإِنْسَاْن إذا كان في أحد جانبي الأرض أو الفلك، أن الجانب الآخر تحته، وهذا أمر لا يتنازع فيه اثنان ممن يقول إن الأفلاك مستديرة، وهذا كما أنه قول أهل الهيئة والحساب، فهو الذي عليه علماء المسلمين، كما ذكره أبو الحسن المناوي وأبو محمد بن حزم وأبو الفرج بن الجوزي وغيرهم، وهو المأخوذ من قول ابن عباس وغيره.
ومن ظن أن من يكون في الفلك من ناحية يكون تحته من في الفلك من الناحية الأخرى في نفس الأمر، فهو متوهم عندهم.
فإذا كان الأمر كذلك، فإذا قدر أن العرش مستدير محيط بالمخلوقات كان هو أعلاها، وسقفها وهو فوقها مطلقًا، فلا يتوجه إليه وإلى ما فوقه الْإِنْسَاْن إلا من العلو.
ومن توجه إلى الفلك الثامن أو التاسع مثلًا من غير جهة العلوّ، كان جاهلًا باتفاق العقلاء، فكيف بالتوجه إلى العرش أو إلى ما فوقه! وغاية ما يقدر أن يكون كريّ الشكل، والله تعالى محيط بالمخلوقات كلها إحاطة تليق بجلاله، فإن السماوات السبع والأرض في يده أصغر من الحمصة في يد أحدنا.
وأما قول القائل: إذا كان كريًّا، الله من ورائه محيط بائن عنه، فما الفائدة في التوجه إلى العلو دون التحت، ومع هذا نجد في قلوبنا قصد العلو؟ فيقال: هذا إنما ورد لتوهم أن نصف الفلك يكون تحت الأرض، وتحت ما على وجه الأرض، من الآدميين والبهائم، وهذا غلط.
فلو كان الفلك تحت الأرض من جهة، لكان تحتها من كل جهة، فكان يلزم أن يكون الفلك تحت الأرض مطلقًا، وهذا قلب للحقائق إذ الفلك هو فوق الأرض مطلقًا، وأهل الهيئة يقولون: لو أن الأرض مخروقة إلى ناحية أرجلنا، وألقي في الخرق شيء ثقيل كالحجر ونحوه، لكان ينتهي إلى المركز، حتى لو ألقي من تلك الناحية حجر آخر، لالتقيا جمعيًا في المركز، الذي هو النقطة المتوسطة في كرة الأرض، ولو قدر أن إنسانين التقيا في المركز بدل الحجر، لالتقت رجلاهما، ولم يكن أحدهما تحت الآخر، بل كلاهما فوق المركز، وكلاهما تحت الفلك.
وإذا كان مطلوب أحد ما فوق الفلك لم يطلبه إلا من الجهة العليا، لأن مطلوبه من تلك الجهة أقرب، لأنه لو قدر أن رجلًا أو ملكًا يصعد إلى السماء، كان صعوده مما يلي رأسه، ولا يقول عاقل إنه يخرق الأرض ثم يصعد من تلك الناحية، أو يذهب يمينًا أو شمالًا ثم يصعد.
ولو أن رجلًا أراد مخاطبة القمر، فإنه لا يخاطبه إلا من الجهة العليا، مع أنه قد يشرق ويغرب، فكيف بما هو فوق كل شيء لا يأفل ولا يغيب سبحانه وتعالى.
وكما أن حركة الحجر تطلب مركزها بأقصر طريق، وهو الخط المستقيم، فالطلب الإرادي الذي يقوم بقلوب العباد، كيف يعدل عن الصراط المستقيم؟ مطلب في حديث الإدلاء إلى أن قال: وحدث الإدلاء، الذي رواه أبو هريرة وأبو ذر، قد رواه الترمذي وغيره من حديث الحسن عن أبي هريرة، وهو منقطع، فإن الحسن لم يسمع من أبي هريرة، ولكن يقويه حديث أبي ذر المرفوع. فإن كان ثابتًا، فمعناه موافق لهذا، فإن قوله صلى الله عليه وسلم: «لو أدلى أحدكم بحبل لهبط على الله»، إنما هو تقدير مفروض، أي: لو وقع الإدلاء لوقع عليه، لكن لا يمكن أن يدلي أحد على الله عز وجل شيئًا، لأنه عال بالذات، وإذا أُهبط شيء إلى جهة الأرض وقف في المركز، والمقصود بيان إحاطة الخالق سبحانه، كما بين أنه يقبض السموات، ويطوي الأرض، ونحو ذلك مما فيه بيان إحاطته تعالى، ولهذا قرأ في تمام الحديث: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} وهذا كله على تقدير صحته، فإن الترمذي لما رواه قال: وفسره بعض أهل العلم بأنه هبط على علم الله.
وبعض الحلولية والإتحادية يظن أن فيه ما يدل على زعمه الباطل من أنه سبحانه حال بذاته في كل مكان، أو أن وجوده وجود الأمكنة ونحو ذلك.
وكذلك تأويله بالعلم غير مستقيم، بل على تقدير ثبوته، فالمراد به الإحاطة، ونحن لا نتكلم إلا بما نعلم، وما لم نعلمه أمسكنا عنه، وقد فطر الله تعالى الناس على التوجه في الدعاء إلى جهة العلو، وقال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلِدّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللّه الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها} فجاءت الشريعة بالعبادة والدعاء بما يوافق الفطرة.
وقد ثبت في الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم قال: «إذ قام أحدكم إلى الصلاة فلا يبصق قِبل وجهه، فإن الله تعالى قبل وجهه، ولا عن يمينه فإن يمينه ملكًا، وليبصق عن يساره أو تحت رجله».
وفي رواية: إنه أذن أن يبصق في ثوبه، وفي حديث أبي رَزين المشهور: لما أخبر صلى الله عليه وسلم أنه ما من أحد إلا سيخلو به ربه، فقال له أبو رَزين: كيف يسعنا يا رسول الله وهو واحد ونحن جمع؟ فقال: «سأنبئك بمثل ذلك في آلاء الله تعالى: هذا القمر آية من آيات الله تعالى كلكم يراه مخليًا به، فالله أكبر».
وفي الصحيحين: «لينتهين أقوام عن رفع أبصارهم في الصلاة، أو لا ترجع إليهم أبصارهم».
واتفق العلماء على أن رفع المصلي بصره إلى السماء منهي عنه، وروى محمد بن سيرين أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرفع بصره في الصلاة إلى السماء، حتى نزل: {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} فكان بصره لا يجاوز موضع سجوده.
فهذا مما جاءت به الشريعة تكميلًا للفطرة، لأن الداعي المأمور بالذل، لا يناسب حاله أن ينظر إلى ناحية من يدعوه، خلافًا للجهمية الذين لا يفرقون بين العرش وقعر البحر، وقد قال تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} الآية، ثم بين تأويل: الحجر الأسود يمين الله في الأرض فمن صافحه وقبله فكأنما صافح الله تعالى وقبل يمينه، وقال: قد ظنوا أن هذا وأمثاله محتاج إلى التأويل، وهذا وهم، لأنه لو كان هذا اللفظ ثابتًا عن النبي صلى الله عليه وسلم فإنه صريح في أن الحجر ليس هو من صفاته تعالى، وتقييده بالأرض يدل على أنه ليس هو يده على الإطلاق، فلا تكون اليد حقيقة. وقوله: فكأنما صافح الله تعالى... الخ، صريح في أن المصافح ليس مصافحًا له تعالى، لأن المشبه ليس هو المشبه به.
إلى أن قال: فهذا كله بتقدير كرّية العرش، وأما إذا قدر لأنه ليس بكري الشكل، بل هو فوق العالم من الجهة التي هي وجه الأرض، وأنه فوق الأفلاك الكرية، كما أن وجه الأرض الموضع للأنام، فوق نصف الأرض الكريّ، أو غير ذلك من المقادير التي يقدر فيها أن العرش فوق ما سواه، فعلى كل تقدير لا يتوجه إلى الله تعالى إلا إلى العلو، مع كونه على عرشه مباينًا لخلقه.
وعلى ما ذكرناه لا يلزم شيء من المحذور والتناقض، وهذا يزيل كل شبهة تنشأ من اعتقاد فاسد، وهو أن يظن أن العرش إذا كان كريًّا، والله تعالى فوقه كما تقتضيه ذاته- سبحانه عن مشابهة المخلوقين- وجب فيما عند الزاعم أن يكون سبحانه كريًا، ثم يعتقد أنه إذا كان كريًّا فيصح التوجه إلى ما هو كري كالفلك التاسع من جميع الجهات، وهذا خطأ، فإن القول بأن العرش كري لا يجوز أن يظن أنه مشابه للأفلاك في أشكالها وأقدارها أو في صفاتها، بل قد تبين أن سبحانه أعظم وأكبر من أن تكون المخلوقات عنده أصغر من الحمصة في يد أحدنا، فإذا كانت الحمصة مثلًا في يد الْإِنْسَاْن أو تحته أو نحو ذلك، هل يتصور عاقل، إذا استشعر علو الْإِنْسَاْن على ذلك وإحاطته، بأن يكون الْإِنْسَاْن كالفلك؟ فالله تعالى- وله المثل الأعلى- أعظم من أن يظن به ذلك.
وإنما يظنه الذين لم يقدروا الله: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}.
وإذا لم يكن كريًّا، فالأمر ظاهر مما تقدم، وبهذا يظهر الجواب عن السؤال من وجوه متعددة، والله تعالى أعلم.
وإنما أشبعنا الكلام في هذا المقام، لأنه من أصول العقائد الدينية، ومهمات المسائل التوحيدية، وقد كثر فيه تعارك الآراء، وتصادم الأهواء، ولم يأت جمهور المتكلمين المؤولين بشيء يعلق بقلب الأذكياء، بل اجتهدوا في إيراد التمحلات التي تأتي تأباها فطرة الله أشد الغباء، فبقيت نفوس أنصار السنة المحققين، مائلة إلى مذهب السلف الصالحين، فإن الأئمة منهم، كان عقدهم ما بيناه فلا تكن من الممترين، والحمد لله رب العالمين.
وقوله تعالى: {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ} أي: يغطيه به، يعني أنه تعالى يأتي بالليل على النهار، فيغطيه ويلبسه، حتى يذهب بنوره، ويصير الجو مظلمًا، بعد ما كان مضيئًا.
قال الشهاب: وجوز جعل الليل والنهار مغشى على الإستعارة، بأن يجعل غشيان مكان النهار وإظلامه بمنزلة غشيانه للنهار نفسه، فكأنه لف عليه لف الغشاة، أو شبه تغييب كل منهما، بطريانه عليه، بستر اللباس للابسه. انتهى.
ولم يذكر العكس للعلم به، أو لأن اللفظ يحتملها، ولذلك قرئ: {يَغْشى اللَّيْلَ النَّهارُ} بنصب الليل، ورفع النهار: {يَطْلُبُهُ حَثِيثًا} أي: يعقبه سريعًا، كالطالب له، لا يفصل بينهما شيء.
قال الرازي: وإنما وصف سبحانه هذه الحركة السرعة، لأن تعاقب الليل والنهار إنما يحصل بحركة الفلك الأعظم، وتلك الحركة أشد الحركات سرعة، وأكملها شدة، حتى إن الباحثين عن أحوال الموجودات قالوا: الْإِنْسَاْن إذا كان في العدو الشديد الكامل، فإلى أن يرفع رجله ويضعها يتحرك الفلك الأعظم ثلاثة آلاف ميل، وإذا كان الأمر كذلك، كانت تلك الحركة في غاية الشدة والسرعة، فلهذا السبب قال تعالى: {يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ} أي: مذللات لما يراد منها من طلوع وغروب وسير ورجوع بقضائه وتصريفه.
قال الشهاب: وسماه أمرا على التشبيه، إذ جعل هذه الأشياء لكونها تابعة لتدبيره وتصريفه كما يشاء كأنهم مأمورات منقادة لأمره، ويصح حمله على ظاهره. انتهى.
أي: وهو الكلام، فيكون تعالى أمره هذه الأجرام بالسير الدائم، والحركة المستمرة إلى انقضاء الدنيا، وخراب هذا العالم. وقد قرئ: {وَالشَّمْسَ} وما بعده بالنصب، عطفًا على {السَّمَوَات} ونصب: {مُسَخَّرَاتٍ} على الحال. وقرأها ابن عامر كلها بالرفع على الإبتداء، والخبر: {أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} أي: هو الذي خلق الأشياء كلها، وهو الذي صرفها على حسن إرادته، وفسر الأمر بالقضاء والحكم.
تنبيهان:
الأول: استخرج سفيان بن عيينة من هذا المعنى، أن كلام الله عز وجل ليس بمخلوق، فقال: إن الله تعالى فرق بين الخلق والأمر، فمن جمع بينهما فقد كفر، يعني أن من جعل الأمر الذي هو كلامه تعالى، من جملة ما خلقه فقد كفر، لأن المخلوق لا يقوم بمخلوق مثله. كذا في اللباب.
قال في الإكليل: استدل به ابن عيينة على أن القرآن غير مخلوق، أخرجه ابن أبي حاتم. لأن الأمر هو الكلام، وقد عطفه على الخلق، فاقتضى أن يكون غيره، لأن العطف يقتضي المغايرة، وسبقه إلى هذا الاستنباط محمد بن كعب القرظي. انتهى.
الثاني: قال في اللباب: في الآية دليل على أنه لا خالق إلا الله عز وجل، أي: للحصر المستفاد من تقديم الظرف، ففيه رد على من يقول: إن للشمس والقمر والكواكب تأثيرات في هذا العالم.
{تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} أي: تقدس وتنزه وتعالى وتعاظم. قال في التاج: سئل أبو العباس عن تفسير: {تَبَارَكَ اللّهُ} فقال: ارتفع. انتهى. اهـ.